كتاب الإيقان
شهر الرّحمة 145 بديع
حزيران 1997
من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل
EDITORA BAHA’I – DO BRASIL
Rua Edgar Neto de Araujo Nr. 104
13800-000 Mogi Mirim, S.P. Brazil
كتاب الإيقان
“قل هذا يوم فيه تمّت الحجّة وظهرت الكلمة”
ولاح البرهان
“إنّه يدعُوكم بما ينفعكم ويأمركم بما يقرّبكم إلى الله”
مالك الأديان
الطّبعة الرّابعة
معرّبة عن الفارسيّة
صفحة خالية
بسم ربِّنا العليّ الأعلى
“الباب المذكور في بيان أنّ العباد لن يصلوا إلى شاطئ بحر العرفان إلاّ بالانقطاع الصّرف عن كلّ من في السّموات والأرض. قدّسوا أنفسكم يا أهل الأرض لعلّ تصلنّ إلى المقام الّذي قدّر الله لكم وتدخلنّ في سرادق جعله الله في سمآء البيان مرفوعًا”
جوهر هذا الباب هو أنّه يجب على السّالكين سبيل الإيمان والطّالبين كؤوس الإيقان أن يطهّروا أنفسهم ويقدّسوها عن جميع الشؤونات العرضيّة - يعني ينزّهون السّمع عن استماع الأقوال، والقلب عن الظّنونات المتعلّقة
بسبحات الجلال، والرّوح عن التّعلّق بالأسباب الدّنيويّة، والعين عن ملاحظة الكلمات الفانية، ويسلكون في هذا السّبيل متوكّلين على الله ومتوسّلين إليه، حتّى يصبحنّ قابلين لتجلّيات إشراقات شموس العلم والعرفان الإلهيّ، ومحلاًّ لظهورات فيوضات غيب لا يتناهى. لأنّ العبد لو أراد أن يجعل أقوال العباد من عالم وجاهل، وأعمالهم وأفعالهم ميزانًا لمعرفة الحقّ وأوليائه فإنّه لن يدخل أبدًا رضوان معرفة ربّ العزّة، ولن يفوز بعيون علم سلطان الأحديّة وحكمته، ولن يرد منزل البقاء، ولن يذوق كأس القرب والرضا
انظروا إلى الأيّام السّالفة، كم من العباد من شريف ووضيع، كانوا دائمًا ينتظرون ظهورات الأحديّة في الهياكل القدسيّة، على شأن كانوا في جميع الأوقات والأزمنة يترصّدون وينتظرون، يدعون ويتضرّعون، لعلّ يهبُّ نسيم الرّحمة الإلهيّة، ويطلع جمال الموعود من خلف سرادق الغيب إلى عرصة الظّهور. وعندما كانت تنفتح أبواب العناية، ويرتفع غمام المكرمة، وتظهر شمس الغيب عن أفق القدرة، يقوم الجميع على تكذيبها وإنكارها ويحترزون عن
لقائها الّذي هو عين لقاء الله، كما هو مذكور ومسطور تفصيله في جميع الكتب السّماويّة
تدبّروا الآن وتفكّروا قليلاً، لِمَ اعترض العباد من بعد طلبهم وانتظارهم؟! وكان اعتراضهم أيضًا بدرجة يعجز اللِّسان والبيان عن وصفه، ويقصر التّقرير والتّحرير عن ذكره. فلم يظهر أحد من المظاهر القدسيّة والمطالع الأحديّة إلاّ وابتلي باعتراض النّاس وإنكارهم واحتجاجهم كما قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾(1)، وكما قال في موضع آخر ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾(2) وكذلك كانت الكلمات النّازلة من غمام القدرة الصّمدانيّة، وسماء العزّة الرّبّانيّة تفوق حدّ الإحصاء وإحاطة العباد، وإنّ في سورة هود لكفاية لأولي الأفئدة وأصحاب البصر. فتأمّلوا قليلاً في هذه السّورة المباركة وتدبّروا فيها بالفطرة الأصليّة، حتّى تطّلعوا قليلاً على بدائع أمور الأنبياء وردّ كلمات النّفي لهم وتكذيبهم إيّاهم، لعلَّ تكوننَّ سببًا لأن
يطير النّاس من موطن الغفلة النّفسانيّة إلى أوكار الوحدة والمعرفة الإلهيّة، وتشربنَّ من زلال الحكمة الباقية، وترزقنَّ من أثمار شجرة علم ذي الجلال. هذا هو نصيب الأنفس المجرّدة من المائدة المنزّلة القدسيّة الباقية
لو اطّلعتم على علّة إبتلاء الأنبياء، وسبب اعتراضات العباد على تلك الشّموس الهويّة، لوقفتم على كثير من أمورهم. كذلك كلّما لاحظتم وتفحّصتم كثيرًا في اعتراضات العباد على مشارق شموس صفات الأحديّة، ازددتم إحكامًا في دينكم، ورسوخًا في أمر الله. لذا نذكر في هذه الألواح بعضًا من قصص الأنبياء على سبيل الإجمال، حتّى يكون معلومًا ومثبوتًا أنّه قد ورد على مظاهر القدرة ومطالع العزّة في جميع الأعصار والقرون، ما يضطرب له القلم ويخجل من ذكره. لعلَّ تصير هذه الأذكار سببًا لعدم اضطراب بعض النّاس من إعراض العلماء واعتراض جُهّال العصر، بل ربّما يزيدهم هذا إيقانًا واطمئنانًا
فمن جملة الأنبياء نوح عليه السّلام الّذي ناح تسعمائة
وخمسين سنة، ودعا العباد إلى وادي الرّوح الأيمن، وما استجاب له أحد، وفي كلّ يومٍ كان يرد منهم على هذا الوجود المبارك من الأذيّة والإيذاء ما كانوا به يوقنون أنّه قد هلك. وكثيرًا ما ورد على حضرته من أنواع السّخرية والاستهزاء والتّعريض. كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (1) وبعد حين من الزّمن وعد أصحابه وعدًا معيّنًا عدّة مرّات بإنزال النّصر عليهم، وفي كلّ مرّةٍ منها كان يحصل البداء، فأعرض بسبب ظهور البداء بعضٌ من أصحابه المعدودين، كما هو مثبوت تفصيله في أكثر الكتب المشهورة مِمّا لا بدّ أنّكم قد اطّلعتم عليه أو ستطّلعون. حتّى أنّه لم يبق مع حضرته إلا أربعون نفسًا أو اثنان وسبعون، كما هو مذكور في الكتب والأخبار، إلى أن صرخ أخيرًا من أعماق قلبه بدعائه ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾(2)
والآن يجب التّأمّل قليلاً. ماذا كان سبب اعتراض
العباد واحترازهم إلى هذه الدّرجة في ذلك الزّمان، ولِمَ لم يخلعوا قميص النّفي، ويتحلّوا برداء الإثبات ويفوزوا به. وكذلك لماذا حصل البداء في الوعود الإلهيّة ممّا كان سببًا في إدبار بعض المقبلين. لذا يجب التأمّل كثيرًا، حتّى تقف على أسرار الأمور الغيبيّة، وتستنشق رائحة الطّيب المعنويّ من الفردوس الحقيقيّ، وتوقن بأنّ الامتحانات الإلهيّة لم تزل كانت بين العباد، ولا تزال تكون بينهم، حتّى يتبيّن ويتميّز النّور من الظّلمة، والصّدق من الكذب، والحقّ من الباطل، والهداية من الضّلالة، والسّعادة من الشّقاوة، والشّوك من الورد، كما قال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾(1)
ومن بعد نوح، أشرق جمال هود من مشرق الإبداع، ودعا النّاس إلى رضوان القرب من ذي الجلال نحوًا من سبعمائة سنة أو يزيد، على حسب اختلاف الأقوال. فكم من البلايا نزلت على حضرته كالغيث الهاطل، حتّى صارت كثرة الدّعوة سببًا لكثرة الإعراض، وشِدّة الاهتمام علّةً لشدّة
الإغماض ﴿وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا﴾(1)
ومن بعده طلع هيكل صالح من رضوان الغيب المعنويّ، ودعا العباد إلى شريعة القرب الباقية، وفي مائة سنة أو أزيد، أمرهم بالأوامر الإلهيّة ونهاهم عن المناهي الربّانيّة، فلم يأت ذلك بثمر، ولم يظهر منه أثر، فاختار الغيبة والعزلة عنهم مرّات عديدة، مع إنّ هذا الجمال الأزليّ، ما دعا النّاس إلاّ إلى مدينة الأحديّة، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾. إلى قوله ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾(2)، وما أتى ذلك بفائدة ما، إلى أن أخذتهم الصّيحة جميعًا، وكان مرجعهم إلى النّار
ومن بعده كشف الخليل النِّقاب عن جماله، ورفع علم الهدى، ودعا أهل الأرض إلى نور التُّقى، وكلَّما بالغ في النّصيحة لهم، لم يثمر ذلك غير الحسد، ولم ينتج غير
الغفلة، إلاّ الّذين هم انقطعوا بكلّهم إلى الله، وعرجوا بجناحيّ الإيقان إلى مقام جعله الله عن الإدراك مرفوعًا
وقصّة حضرته مشهورة، فكم من الأعداء أحاطوا به إلى أن اشتعلت نار الحسد والإعراض. ومن بعد حكاية النّار أخرجوا ذلك السّراج الإلهيّ من بلده، كما هو مذكور في الكتب والرّسائل
ولمّا انقضى زمانه أتت دورة موسى، فظهر حضرته من سيناء النّور إلى عرصة الظّهور بعصا الأمر وبيضاء المعرفة. وأتى من فاران المحبّة الإلهيّة، ومعه ثعبان القدرة والشّوكة الصّمدانيّة. ودعا جميع من في الملك الى ملكوت البقاء، وأثمار شجرة الوفاء. ولقد سمعت ما ورد عليه من فرعون وملأه من الاعتراضات، وكم أُلقي على تلك الشّجرة الطّيّبة من أحجار الظّنونات من الأنفس المشركة، وبلغ الاعتداء عليه إلى حدّ أن همّ فرعون وملأه بإخماد نار تلك السّدرة الرّبّانيّة وإطفائها بماء الإعراض والتّكذيب. وغفلوا عن أنّ نار الحكمة الإلهيّة لا يخمدها الماء العنصريّ، وسراج القدرة الرّبّانيّة لا تطفئه الأرياح المخالفة. بلّ إنّ الماء في
هذا المقام يصير سببًا للاشتعال، والرّيح علّةً للحفظ لو أنتم بالبصر الحديد تنظرون، وفي رضا الله تسلكون
وما أحلى البيان الّذي فاه به مؤمن آل فرعون، كما أخبر ربّ العزّة حبيبه بحكايته قائلاً ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(1).
وأخيرًا وصل الأمر الى حدّ أن قتلوا هذا المؤمن، واستشهد بنهاية العذاب (ألا لعنةُ الله على القوم الظّالمين) فانظروا الآن وتأمّلوا قليلاً في هذه الأمور وماذا كان سبب أمثال هذه الاختلافات، إذْ كلّما ظهر ظهور حقّ في الإمكان من أفق اللاّمكان كان يظهر ويبدو في أطراف العالم أمثال هذا النّوع من الفساد والفتنة والظّلم والانقلاب، مع أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون النّاس في حين ظهورهم بالنّبيّ
التّالي، ويذكرون لهم علامات الظّهور الآتي، كما هو مسطور في كلّ الكتب. ومع طلب النّاس وانتظارهم لظهور المظاهر القدسيَّة، وذكر العلامات في الكتب، لماذا تحدث هذه الأمور في العالم، ويرد على جميع الأنبياء والأصفياء في كلّ عهد وعصر أمثال هذا الظّلم والعسف و التعدِّي؟ كما قال تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾(1) أي أنّه كلّما جاءكم رسول من قبل الله بما لا تهوى أنفسكم في أيّ عهد وزمان استكبرتم، وما أيقنتم، ففريقًا من هؤلاء الأنبياء كذّبتم وفريقًا كنتم تقتلون
تأمَّلوا حينئذٍ ماذا كان سبب هذه الأفعال، ولم كانوا يسلكون بهذه الكيفيّة مع طلعات جمال ذي الجلال؟ إذ كلّ ما كان سبب إعراض العباد وإغماضهم في تلك الأزمنة، قد أصبح اليوم أيضًا بعينه سبب غفلة هؤلاء العباد. فإذا قلنا أنّ الحجج الإلهيّة لم تكن كاملة ولا تامّة، ولذا كانت سببًا لاعتراض العباد، فإنّ هذا يكون كفرًا صراحًا. لأنّه بعيد جدًّا
عن فيض الفيّاض، وبعيد عن واسع رحمته، أن يجتبي نفسًا من بين جميع العباد لهداية خلقه، ولا يؤتيها الحجّة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذّب الخلق لعدم إقبالهم إليها. بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطًا على كلّ الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدّهر انقطع فيه فيضه، أو منع نزول أمطار الرّحمة من غمام عنايته. إذًا فليست هذه الأمور المحدثة إلاّ من الأنفس ذات الإدراكات المحدودة، الّذين يهيمون في وادي الكبر والغرور، ويسيرون في بيداء البعد، ويتأسّون بظنوناتهم، وبما استمعوه من علمائهم. لهذا لم يكن عندهم أمور غير الإعراض، ولا بغية الاّ الإغماض، ومن المعلوم لدى كلّ ذي بصر، أنّه لو كان هؤلاء العباد في حين ظهور أيّ مظهر من مظاهر شمس الحقيقة، يقدّسون ويطّهرون السّمع والبصر والفؤاد من كلِّ ما سمعوه وأبصروه وأدركوه، لما حرموا البتَّة من الجمال الإلهيّ، ولا منعوا عن حرم القرب والوصال للمطالع القدسيّة
ولمّا كانوا يزنون الحجّة في كلّ زمان بمعرفتهم الّتي تلقّوها عن علمائهم، وكانوا يجدونها غير متّفقة مع عقولهم
الضّعيفة، لذا كان يظهر منهم في عالم الظّهور أمثال هذه الأمور غير المرضيّة
إنَّ علماء العصر في كلِّ الأزمان كانوا سببًا لصدِّ العباد، ومنعهم عن شاطئ بحر الأحديّة، لأنَّ زِمام هؤلاء العباد كان في قبضة قدرتهم. فكان بعضهم يمنع النَّاس حبًّا للرّياسة، والبعض الاخر يمنعهم لعدم العلم و المعرفة. كما أنّه بإذن علماء العصر وفتاويهم قد شرب جميع الأنبياء سلسبيل الشّهادة، وطاروا إلى أعلى أفق العزَّة. فكم ورد على سلاطين الوجود، وجواهر المقصود، من ظلم رؤساء العهد، وعلماء العصر، الّذين قنعوا بهذه الأيّام المحدودة الفانية، ومنعوا أنفسهم عن الملك الّذي لا يفنى، كما حرموا عيونهم من مشاهدة أنوار جمال المحبوب، ومنعوا آذانهم عن استماع بدائع نغمات ورقاء المقصود. ولهذا ذكرت أحوال علماء كلّ عصر في جميع الكتب السّماويّة كما قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾(1) وكما قال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1) وكما قال تعالى في مقامٍ آخر ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾(2)
ومن المعلوم أنّ أهل الكتاب الّذين صدّوا النّاس عن الصّراط المستقيم كانوا علماء ذلك العهد، كما هو مذكور اسم الجميع ورسمهم في الكتب، وكما هو مُستفاد من أكثر الآيات والأخبار، لو أنتم بطرف الله تنظرون
إذًا تأمّلوا قليلاً بعين البصيرة الإلهيّة، في آفاق العلم الربّانيّ، وتعقَّلوا في أنفس الكلمات التّامّات الصمدانيّة، حتّى تنكشف لكم وتظهر جميع أسرار الحكمة الرّوحانيّة، من خلف سرادق الفضل والإفضال، مجرّدة عن سبحات الجلال، وتعرفوا أنّ أساس اعتراضات النّاس واحتجاجاتهم، لم يكن إلاّ من عدم الإدراك والعرفان. فمثلاً إنّهم لمّا لم يفهموا البيانات التّي صدرت من طلعات جمال الحقّ، عن علامات الظّهور الآتي، ولم يصلوا إلى
معرفة حقيقتها، لذا رفعوا علم الفساد، ونصبوا رايات الفتنة
ومن المعلوم أنّ تأويل كلمات الحمامات الأزليّة لا يدركه إلاّ الهياكل الأزليّة، وأنَّ نغمات الورقاء المعنويّة، لا يسمعها الاّ مسامع أهل البقاء. فليس لقبطيّ الظّلم نصيب أبدًا من شراب سبطيّ العدل، ولا لفرعون الكفر خبر عن بيضاء موسى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾(1) ومع ذلك طلبوا تفسير الكتاب وتأويله من أهل الحجاب، ولم يأخذوا العلم من منبعه
فمثلاً لمّا انقضت أيّام موسى، وأحاطت العالم أنوار عيسى السّاطعة من فجر الرّوح، اعترض جميع اليهود بأنّ ذلك الموعود في التّوراة، يجب أن يروّج ويكمّل شرائع التّوراة. بينما هذا الشّاب النّاصريّ، الّذي يدعو نفسه بمسيح الله، قد نسخ حكميّ الطّلاق والسّبت، الّذين هما أعظم أحكام موسى، فضلاً عن أنّ علائم الظّهور لم تظهر
بعد، ولهذا لا يزال اليهود إلى الآن منتظرين ذلك الظّهور المذكور في التّوراة. ولَكَم ظهر في عالم الإبداع من بعد موسى، من مظاهر القدس الأحديّة، ومطالع النّور الأزليّة، واليهود ما زالوا محتجبين بالحجبات النّفسيّة الشّيطانيّة، والظّنونات الإفكيّة النّفسانيّة، ولا يزالون ينتظرون ظهور ذلك الهيكل المجعول، بالعلامات المذكورة الّتي يتصوّرونها بإدراكاتهم، كذلكم أخذهم الله بذنبهم، وأخذ عنهم روح الإيمان، وعذّبهم بنارٍ كانت في هاوية الجحيم. ولم يكن هذا إلاّ من عدم عرفان اليهود للعبارات المسطورة في التّوراة، والمذكورة في علائم الظّهور التّالي. ولمّا لم يقفوا على حقيقة هذه العلامات، ولم تظهر تلك الأمور بحسب الظّاهر، فقد حرموا عن الجمال العيسويّ، ولم يفوزوا بلقاء الله وكانوا من المنتظرين. ومازال جميع الأمم، ولا يزالون متمسِّكين بهذه الأفكار المجعولة غير اللاّئقة، وقد حرموا أنفسهم من العيون اللّطيفة الصّافية الجارية
ولقد ذكرنا بعضًا من عبارات الأنبياء، في كشف هذه الأسرار، في ألواح مسطورة من قبل، رقّمناها لأحد من
الأحبّاء ببدائع النّغمات الحجازيّة
والآن، إجابة لطلب جنابكم، نجدّد ذكرها في هذه الأوراق بمليح التّغنّيات العراقيّة، لعلّ يهتدي بها عطاش صحارى البعد الى بحر القرب، ويصل الضّالون في فيافي الهجر والفراق الى خيام القرب والوصال. حتّى ينقشع غمام الضّلالة وتطلع من أفق الرّوح شمس الهداية المضيئة على العالم، وعلى الله أتّكل، وبه أستعين، لعلَّ يجري من هذا القلم، ما يحيا به أفئدة النّاس ليقومنّ الكلّ عن مراقد غفلتهم، ويسمعنَّ أطوار ورقات الفردوس من شجر كان في الرَّوضة الأحديّة من أيدي القدرة بإذن الله مغروسًا
من الواضح المعلوم لدى أهل العلم، أنّه لمّا أحرقت نار المحبّة العيسويّة حجبات حدود اليهود، ونفذ حكم حضرته نوعًا ما حسب الظّاهر، ذكر ذاك الجمال الغيبيّ في يومٍ من الأيّام لبعضٍ من أصحابه الرّوحانيّين أمر الفراق، وأشعل فيهم نار الاشتياق قائلاً لهم: “إنّي ذاهب ثم أعود.” وقال في مقامٍ اخر: “إنّي ذاهب ويأتي غيري حتّى يقول ما لم أقله ويتمِّم ما قلته.” وهاتان العبارتان هما في الحقيقة شيء
واحد، لو أنتم في مظاهر التّوحيد بعين الله تشهدون
ولو نظرنا بعين البصيرة المعنويّة، نشاهد في الحقيقة أنّ كتاب عيسى وأمره أيضًا قد ثبتا في عهد خاتم الأنبياء. فمن حيث الاسم قال حضرة محمّد (إنّي أنا عيسى) وقد صدّق أخباره وآثاره وكتابه أيضًا بقوله (إنّه من عند الله)، ففي هذا المقام لا يشاهد بينهما فرق ولا يرى في كتابيهما غيريّه، لأنّ كلاًّ منهما كان قائمًا بأمر الله، وناطقًا بذكر الله، وكتاب كلّ منهما مشعر بأوامر الله. فمن هذه الوجهة قال عيسى بنفسه إنّي ذاهب وراجع. مَثَلُ ذلك مثل الشّمس، فإذا قالت شمس اليوم إنّني أنا شمس الأمس فهي صادقة، ولو قالت إنّني غيرها نظرًا لاختلاف الأيّام فهي صادقة أيضًا. وكذلك لو نظرنا إلى الأيّام، وقلنا إنّها جميعها شيء واحد، فإنّ هذا القول يكون صحيحًا وصادقًا. وإذا قلنا إنّها غيرها من حيث تحديد الاسم والرّسم، فإنّ ذلك أيضًا يكون صحيحًا وصادقًا. إذ بينما نلاحظ أنّها شيء واحد، فإنّه مع ذلك يلاحظ أنّ كلاً منها له اسم خاصّ، وخواصّ أخرى، ورسم معيّن لا يُرى في غيرها. فأدرِك بهذا البيان وهذه القاعدة مقامات التّفصيل والفرق والاتّحاد بين المظاهر
القدسيّة، حتّى تعرف وتقف على مرامي الإشارات، في كلمات مبدع الأسماء والصّفات في مقامات الجمع والفرق بينها. وتطَّلع تمامًا على جواب سؤالك في سرِّ اتّخاذ ذاك الجمال الأزليّ لنفسه في كلِّ مقام اسمًا خاصًا ورسمًا مخصوصًا. ومن بعد ذلك طلب أصحاب عيسى وتلاميذه من حضرته بيان علامات الرَّجعة والظُّهور، ومتى يكون وقتها واستفهموا من طلعته نادرة المثال عن هذا السّؤال في عدّة مواقع. وفي كلّ موقع منها ذكر حضرته علامة، كما هو مسطور في الأناجيل الأربعة
وهذا المظلوم يذكر فقرة منها، ويمنح عباد الله النّعم المكنونة في السّدرة المخزونة، حبًّا لوجه الله حتّى لا تحرم الهياكل الفانية من الأثمار الباقية، عساهم يفوزون برشح من أنهار حضرة ذي الجلال، المقدَّسة عن الزّوال، والّتي جرت في دار السّلام (بغداد) ولا نطلب على ذلك جزاء ولا أجرًا ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾(1) وهذا هو الطّعام الّذي به تحيا الأرواح والأفئدة المنيرة
الحياة الباقية، وهو المائدة الّتي قيل في حقّها ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء﴾(1) وهذه المائدة لا انقطاع لها أبدًا عن أهلها ولا نفاذ لها، وفي كلّ حين تؤتي أكلها من شجرة الفضل، وتنزل من سماء الرّحمة والعدل كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾(2)