بهاءالله والعصر الجديد
Category: Bahá’í
7:34 h

منتخبات من كتاب

بهاءالله والعصر الجديد

مُقدّمة لدِرَاسَةِ الدِّين البهائيّ

تَأليف

الدُّكتُور جُون أسلُمنُت

المحتوى

صفحة خالية

من مقدّمة المؤلّف

كان أوّل علمي بالتّعاليم البهائيّة في ديسمبر (كانون الأوّل) سنة 1914، من محادثة مع بعض الأخوة الذّين قابلوا عبدالبهاء ومن بعض النّبذ البهائيّة التّي استعرتها. وكانت دهشتي عظيمةً من قوّتها وجمالها وسعة شمولها، واعتقدت بأنّها تقدّم للعالم الحديث من الاحتياجات العظمى أكثر ممّا تقدّمه أيّة هيئة دينيّة أخرى صادفتها في حياتي، وازداد هذا الاعتقاد ثبوتًا ورسوخًا كلّما تعمّقت في البحث والاستقصاء فيما بعد.

وأثناء بحثي وطلبي لزيادة العلم بالحركة، شاهدت صعوبة الحصول على الكتب التّي أحتاج إليها، وسرعان ما تبادر إلى ذهني أن أضع خلاصةً لكلّ ما وصلت إليه يدي وما عرفته منها في هيئة كتاب، ليكون في متناول الجميع. فلمّا أعيدت المواصلات مع فلسطين بعد الحرب، كتبت لعبدالبهاء، وأرسلت له نسخةً مخطوطةً من الأبواب التّسعة الأولى من الكتاب الذّي كان قد قرب من الانتهاء. فأرسل لي ردًّا مشجّعًا كريمًا، ودعوةً ودّيّةً لزيارته في حيفا، ومعي المخطوطة كلّها، فقبلت هذه الدّعوة بكلّ سرور.

وكان لي الشّرف العظيم في صرف شهرين ونصف في ضيافة عبدالبهاء في شتاء 1919 – 1920. وفي أثناء إقامتي راجعته في كثير من المواضيع وأشار فيها بآراء قيّمة لتنقيحها، واقترح أن تترجم مخطوطة الكتاب إلى اللّغة الفارسيّة بعد انتهائي من تنقيحها، حتّى يقرأها ويصلّح فيها ما يراه، وقد تمّت المراجعة والتّرجمة كما طلب. وقد لقي عبدالبهاء بعض الوقت من بين أعماله اليوميّة العديدة ليصلح ثلاثة أبواب ونصف (وهي الباب الأوّل والثّاني والخامس وجزء من الثّالث) قبل صعوده.

ومن دواعي أسفي العظيم أنّ عبدالبهاء لم يتمكّن من تصحيح بقيّة الكتاب، حيث كانت قيمته تزداد بذلك زيادةً عظيمةً. وقد قامت لجنة من المحفل المركزيّ للبهائيّين في انكلترا بمراجعة الكتاب كلّه ووافقت على طبعه...(1)

كتبه جون أسلمنت

في فيرفورد – كالتس

في ضواحي أبردين – اسكتلنده.

الباب الأوّل

البشارات

“قد ظهر موعود جميع الأمم، وكانت جميع الأمم والمذاهب تنتظر ظهور الموعود، وحضرة بهاءالله أعظم المعلّمين والمربّين الذّين ظهروا في العالم الإنسانيّ”

(عبدالبهاء – مترجمًا)

أعظم حدثٍ في التّاريخ

لو رجعنا إلى ما هو مدوّن في صفحات التّواريخ بخصوص مسألة كيفيّة “تقدّم الإنسان” لوجدنا أنّ العامل المهم في الرّقي البشريّ هو ظهور رجال من وقتٍ لآخر يتخطّون الآراء والأفكار المسلّم بها في عصرهم، ويكتشفون الحقائق التّي لم تكن معلومةً للبشر قبل ظهورهم، ثمّ يعلنونها. فالمخترع والرّائد والنّابغة والرّسول هم الذّين يتوقّف عليهم مبدئيًّا تطوير العالم. وكما يقول كارلايل:

“إنّ الحقيقة الواضحة بل الواضحة جدًّا... أنّ رجلاً واحدًا يمتلك حكمةً أسمى وحقيقةً روحانيّةً كانت مجهولة قبل مجيئه، إنّما يمتلك قوّةً لا تزيد على قوّة عشرة من أبناء جنسه فحسب أو

عشرة آلاف منهم ممّن لم تكن عندهم تلك الحكمة، بل تزيد قوّته على قوّة جميع الذّين لم يمتلكوها، وتراه يقف فيهم بقوّة ملائكيّة علويّة، كمن يكون مقلّدًا بسلاح من أسلحة السّماء، لا تقاومهم أيّة دروع أو أيّة أبراج من النّحاس.“(1)

ففي تواريخ العلوم والآداب والموسيقى، نرى أمثلةً كثيرةً لهذه الحقيقة، إلاّ أنّه ليس هناك في أيّ أفق شيء أوضح من أهميّة الرّجل العظيم، ولا أبين من رسالته، في أفق الدّين. ففي جميع العصور، كلّما انحطّت حياة البشر الرّوحانيّة، وفسدت أخلاقهم، يظهر رسولاً هو أعجب الرّجال وأعمقهم، فيقوم وحده أمام جميع العالم، كرجل بصير بين رجالٍ عميّ، ليعلن بشارة الحقّ والصّدق، بينما لا يوجد معه من يشاركه في إنجاز مسؤولياته، أو من يفهمه، أو من يعلّم النّاس ويهديهم.

ومن الرّسل من كانت له مهمّة سامية خاصّة. وكلّما انقضت بضعة قرون، ظهر رسول إلهيّ في الشّرق، أمثال كريشنا وزردشت وموسى وعيسى ومحمّد، ليضيء عقول البشر المظلمة، ويوقظ أرواحهم الرّاقدة، كالشّمس الرّوحانيّة. ومهما تكن آراؤنا حول العظمة النسبيّة لهؤلاء الرّسل المؤسّسين للأديان، فإنّنا يجب أن نعترف بأنّهم كانوا أقوى العوامل في تعليم بني البشر. وقد اتّفقوا جميعًا في تصريحهم، بأنّ الكلمات التّي يتكلّمون بها ليست من أنفسهم، بل من إلهام إلهيّ يلهمون به، وأنّها رسالة إلهيّة هم حملتها. وقد امتلأت أقوالهم المدوّنة بإشارات ووعود تبشّر بظهور

معلّم عظيم للعالم، يظهر في “وقت المنتهى”، ليتمّم عملهم حتّى يؤتي ثمرته، وهو يؤسّس حكم السّلام والعدل على الأرض، ويجمع في أسرة واحدة كلّ الأجناس والأديان والأمم والقبائل، ليكون هناك “قطيع واحد وراع واحد” وليعرفوا الله ويحبّوه “من أصغرهم إلى أكبرهم”.

حقًا إنّ مجيء هذا “المربّي للإنسانيّة” في آخر الأيّام هو أعظم حدثٍ في التّاريخ البشريّ. ولقد أعلنت الدّيانة البهائيّة للعالم بشارة ظهور هذا “المربّي” ظهورًا فعليًا، وأنّ أمره قد تمّ وتدوّن، وأنّه يمكن لكلّ باحث غيّور أن يدرسه، وأنّ فجر “يوم الرّب” قد تنفّس، وأنّ “شمس الحقيقة” قد أشرقت. نعم، لم يشاهد أحد للآن تلك الشّمس البهيّة سوى القليلون ممّن هم على قلل الجبال، ولكنّ أشعّتها قد أضاءت الأرض والسّماء، وعن قريب سوف ترتفع فوق رؤوس الجبال، وتشرق بأشدِّ إشراق على الأودية والبطاح، وتهب الحياة والهدى لكافّة النّاس.

عالم يتبدّل

قد أصبح معلومًا لدى العموم، اختراق العالم في القرن التّاسع عشر وابتداء القرن العشرين سكرات موت العصر القديم وطلقات ولادة العصر الجديد، وقد أخذت أصول المادّيّة القديمة والمصلحة الفرديّة والتّعصّبات والعداوات الوطنيّة والمذهبيّة بالاضمحلال، وصارت أمورًا مفضوحةً يجب نبذها، بسبب التّدميرات التّي نشأت عنها، وفي كلّ جهة من جهات العالم نرى علامات روح إيمان جديد وأخوّة دوليّة تكسر القيود القديمة وتتجاوز الحدود العتيقة.

وتجري الآن في جميع شؤون الحياة الإنسانيّة تحوّلات ثوريّة ذات شأن عظيم لم يسبق لها مثيل، وترى العصر القديم في صراع دائم مع العصر الجديد، وفي تقلّب بين الحياة والموت، ولم يتم للآن إحتضاره. وهناك شرور عديدة لا تزال قويّةً هائلةً، ولكنّها قد انكشف سترها، وأخذ العالم في محاربتها والهجوم عليها بقوّة جديدة وبأمل وطيد. نعم إنّ السّحب قد تكاثفت، وامتدّت، وهدّدت، ولكنّ النّور آخذ في تبديدها وتقويضها، وهو ينير طريق التقدّم، ويكشف العقبات والمهاوي التّي تعترض الطّريق المستقيم.

أمّا في القرن الثّامن عشر، فقد كان الأمر على خلاف ذلك، فإنّ الظّلمة الرّوحانيّة والأخلاقيّة التّي استولت على العالم فيه لم يكد يخترقها أيّ شعاع من النّور، بل كانت كالظّلمة الحالكة التّي تتقدّم ظهور الفجر، ولم تستطع المصابيح والشّموع القليلة التّي كانت حينذاك موجودة، أن تبيّن شيئًا من الظلام إلاّ قليلاً. وممّا كتبه كارلايل عن القرن الثّامن عشر في كتابه (فردريك العظيم) ما يأتي: “إنّه قرنٌ ليس له تاريخٌ مهم، بل تاريخه نزر قليل يكاد يكون معدومًا، وهو قرن مشحون بالأباطيل المتراكمة... ممّا لا يوجد له شبيه في القرون الأولى! ولم يكن عند أهله شعور بما كان قرنهم عليه من الضّلال الذّي نما فيه، بل انغمس فيه واختلط به لحمًا ودمًا، وطفح به الكيل إلى أن انتهى بالثّورة الفرنسيّة...

وهي خاتمة لائقة جدًا بمثل هذا القرن، كما أشعر بسرور لذلك... لأنّ بني البشر الذّين استولى عليهم الطّيش والبلادة كانوا في حاجةٍ إلى “دين إلهيّ جديد”، لئلا يسقطوا في هاوية التّوحش

والتّقليد“(1).

والوقت الحاضر، بالنّسبة إلى القرن الثّامن عشر، بمثابة الفجر بعد الظّلام، وكظهور الرّبيع بعد الشتاء، فترى العالم يموج بحياة جديدة، ويصدع بأفكار سامية جديدة، وآمال جديدة، وأنّ الأمور التّي كانت منذ سنين قليلة تعدّ حلمًا مستحيلاً، قد أصبحت الآن من الحقائق الثّابتة، وكذلك الكثير من الأمور التّي كانت تُعتبر بعيدةً وغير محتملة الوقوع إلاّ بعد مرور أجيال عديدة، أصبحت “مناهج عمليّة”، وشاهدنا عجائب عديدةً لا تحصى، فقد طرنا في الهواء وغصنا في أعماق البحار، وأصبحنا نرسل الرّسائل حول الأرض بسرعة البرق، وخلال عقود السّنوات الأخيرة رأينا عجائب لا تحصى.

شمس الحقيقة

فما هو السّبب يا ترى في هذه اليقظة الفجائيّة في العالم؟

يعتقد البهائيّون أنّها ترجع إلى نفثات الرّوح القدس الفائضة من الرّسول بهاءالله الذّي ولد في إيران سنة 1817 وصعد في الأرض المقدسّة سنة 1892.

ولقد علم بهاءالله أنّ الرّسول أو “المظهر الإلهيّ” هو الذّي يجلب النّور من العالم الرّوحانيّ كما تجلب الشّمس النّور إلى عالم الطّبيعة. فكما تشرق الشّمس الماديّة فوق الأرض، وتسبب نموّ

الأجسام الماديّة وتطوّرها، فكذلك شمس الحقيقة تضيء من خلال المظهر الإلهيّ على عالم القلوب والأرواح، وتربّي العقول والآداب والأخلاق البشريّة. وكما أنّ أشعّة الشّمس الماديّة لها القدرة على اختراق أظلم نواحي العالم لتهب الحياة والحرارة حتّى للمخلوقات التّي لم تر في حياتها الشّمس، فكذلك نفثات الرّوح القدس الفائضة من المظهر الإلهيّ تؤثّر على حياة الجميع وتلهم العقول المستعدّة، حتّى بين الذّين لم يسمعوا باسم الرّسول أبدًا. فمجيء المظهر هو كمجيء الرّبيع، وهو يوم القيامة الذّي يقوم فيه أموات الرّوح إلى حياة جديدة، وتتجدّد فيه، بل وتتأسّس من جديد حقائق الأديان الإلهيّة، وفيه تظهر “سماء جديدة وأرض جديدة”.

ولكنّ مجيء الرّبيع في عالم الطّبيعة لا يقتصر على إنماء الحياة الجديدة وبعثها فقط، بل يتسبّب عنه زوال كلّ قديم وعتيق وفناؤه، لأنّ الشّمس التّي تنمّي الأزهار وتربّي الأشجار تسبّب بذاتها اضمحلال وانحلال كلّ ما هو هزيل وبالٍ قديم. فهي تذيب ثلوج الشّتاء، وترسل الفيضان والأعاصير التّي تنظّف الأرض وتطهرّها. وعلى هذا المنوال يكون العالم الرّوحانيّ، فيسبّب إشراق الشّمس الرّوحانيّة تغييرًا وحركةً مشابهةً، وكذلك يكون يوم القيامة يومًا للجزاء، فتزول فيه وتنبذ كلّ أشكال الفساد الأفكار والعادات العتيقة وكلّ الخرافات والتّقاليد، وتذوب ثلوج الأوهام والتّعصّبات التّي تراكمت في أزمنة الشّتاء، وتنطلق القوى التّي تجمّدت طويلاً، لتغمر العالم وتجدّده.

رسالة بهاءالله

صرّح بهاءالله مرارًا، وبكلّ وضوح، أنّه هو المرّبي والمعلّم المنتظر، وأنّه معلّم جميع الأمم، وأنّه ينبوع الرّحمة الواسعة العجيبة التّي تفوق كلّ فيض سابق، والذّي فيه تندمج جميع الأديان السّابقة كما تنصبّ الأنهار في المحيط. وقد أسّس أساسًا يكون قاعدةً متينةً لاتحاد جميع العالم ولافتتاح ذلك العصر المجيد، عصر السّلام على الأرض والتآخي بين الأنام، كما أخبر به الرّسل وتغنّى به الشّعراء.

وقد نزلت من قلم بهاءالله قبل مئة عام تعاليمه في كتب متعدّدة وألواح كان الكثير منها موجّهًا إلى الملوك وحكّام العالم. وهذه التعاليم هي: تحرّي الحقيقة، ووحدة الجنس البشريّ، واتحاد الأديان والأجناس والأمم في الشّرق والغرب، واتّفاق العلم والدّين، ومحو التّعصّبات والخرافات والأوهام، ومساواة المرأة والرّجل، وتأسيس العدل والحق، وإنشاء محكمة دوليّة عليا، والاتفاق على لسان واحد من بين اللّغات، والتّعليم الإجباريّ وغيرها.

وأمّا رسالته الفريدة في شمولها ومداها، فإنّها مطابقةً لحاجات هذا العصر وعلاماته تطابقًا عجيبًا. ولم تَكُن المشاكل المستجدّة التّي تجابه البشر قد بلغت في أيّ عصر من الضّخامة والتّعقيد ما بلغته الآن، ولم تكن حلولها المقترحة قد بلغت كذلك ما بلغته من الكثرة والتّضارب، ولم يكن الاحتياج إلى معلّم للعالم في أي

عصر أشدّ إلحاحًا منه في هذا العصر، ولا الشّعور بالحاجة إليه بأوسع، ولم يكن انتظار ظهور مثل هذا المعلّم بأمكن ولا أثبت منه ولا أعمّ.

انطباق النّبوّات

كتب عبدالبهاء خصيصًا لهذا الباب ما تلي ترجمته:

“عندما ظهر السّيد المسيح منذ عشرين قرنًا، كان اليهود منتظرين مجيئه بشوق، وفي كلّ يوم يتضرّعون قائلين ”اللّهم عجّل ظهور المسيح“، ومع ذلك، حينما أشرقت شمس الحقّ، أنكروه وقاموا ضدّه بأعظم العداء، وأخيرًا علّقوه على الصّليب، مع أنّه كان الرّوح القدس وكلمة الله، وسمّوه بـ (بعلزبول) أي الشّيطان، كما هو مذكور في الإنجيل. والسّبب في كلّ ذلك، كما قالوا، هو أنّ ظهور المسيح، حسب نصوص التّوراة الواضحة له علامات خاصّة، وما دامت هذه العلامات لم تظهر، فإنّ كلّ من يدّعي أنّه المسيح كاذب. وهذه العلامات هي: أنّ المسيح يجب أن يأتي من مكان مجهول، في حين أنّنا نعرف بيت هذا الرّجل في النّاصرة، وهل يمكن أن يظهر من النّاصرة شخصٌ صالح؟ والعلامة الثّانية: أنّ عصاه يجب أن تكون من حديد، أي أنّه يرعى الأغنام بالسّيف، ولكن هذا المسيح لم تكن عنده حتّى عصا من الخشب. ومن العلامات والشّروط: أنّه يجلس على كرسيّ داود ويؤسّس سلطنة داود، ففضلاً عن عدم تتويجه، فإنّه لا يملك الآن حصيرًا يجلس عليها. ومن بين الشّروط: أنّه يروّج شريعة التّوراة، ولكنّ هذا الرّجل نسخ شريعة التّوراة نسخًا كليًا، وكسر يوم السّبت مع وجود

نص قاطع في التّوراة يقضي بأنّ كلّ من يدّعي النّبوّة ثم يكسر يوم السّبت يجب قتله، ولو أظهر العجائب والمعجزات. ومن العلامات أنّه في مدّة حكمه يسود العدل والحقّ والصّلاح، حتّى يتجاوز من الإنسان إلى الحيوان، فيعيش الثعبان والفأر في حفرة واحدة، والصّقر والحجل في وكر واحد، والأسد والغزال في مرعى واحد، والذّئب والحمل يشربان من مَعين واحد ولكنّ الظّلم والعدوان قد اشتدّا الآن إلى درجة أنّهم صلبوه! ومن الشّروط الأخرى: أنّ اليهود في زمان المسيح يسودون وينتصرون على جميع أمم الأرض، ولكنّهم الآن مقيمون على العبوديّة والهوان في إمبراطوريّة الرّومان، فكيف إذن يكون هذا هو المسيح الموعود في التّوراة؟

“وبهذه الكيفيّة اعترضوا على شمس الحقيقة، مع أنّ روح اللّه ذاك كان هو الموعود في التّوراة، ولكنّهم لمّا لم يفهموا معنى هذه العلامات، صلبوا (كلمة الله).

“ويقول البهائيّون اليوم أنّ العلامات المدوّنة كلّها ظهرت في مجيء السّيد المسيح، غير أنّ ظهورها لم يكن بالمعنى الذّي فهمه اليهود، وأنّ الوصف الموجود في التّوراة وصف مرموز.

“فمثلاً من ضمن العلامات علامة السّلطنة: فالبهائيّون يقولون أنّ سلطنة السّيد المسيح كانت سلطنة إلهيّة سماويّة أبديّة، وليست مثل سلطنة نابليون التّي زالت في وقتٍ قصير، فقد توطّدت سلطنة السّيد المسيح حوالي ألفيّ سنة، وهي للآن باقية، وسيبقى هذا الوجود المقدّس معتليًا عرشه السّرمدي إلى الأبد، وهكذا بقيّة العلامات التّي ظهرت ولم يدركها اليهود، وهم للآن ينتظرون مجيء

المسيح، مع أنّه قد مرّ الآن عشرون قرنًا على ظهوره بظهور إلهيّ ساطع ويعتقدون أنّهم على الحقّ وأنّ السيّد المسيح كان باطلاً معاذ الله. “

لو طلب اليهود من السّيد المسيح تفسير معاني النّبوات الخاصّة به، لأخبرهم بها. فلنعتبر بهذا المثال، وقبل أن نحكم إذا كانت النّبوات الخاصّة بظهور المعلّم الأعظم في اليوم الأخير قد تمّت أم لا، فلنرجع إلى ما كتبه بهاءالله نفسه خصيصًا حول تفسيرها، لأنّ كثيرًا من النّبوات ولا شك “مختوم”، وأنّ المرّبي الحقيقي هو الشّخص الوحيد الذّي يمكنه أن يفضّ ختمها، ويكشف معانيها المكنونة في أصداف عباراتها.

وقد كتب بهاءالله الكثير حول تفسير النّبوّات القديمة، ولكنّه لا يجعل البرهان على أحقيّة رسالته متوقفًا على هذه النّبوات. فجميع العقلاء يعلمون أنّ الشّمس هي حجّة بذاتها، وفي وقت شروقها لا نحتاج إلى نبوّات سابقة تطمئننا عن شروقها، وهكذا الأمر مع المظهر الإلهيّ حين ظهوره، فإنّه يكون بنفسه حجّة كافية لكل من له إحساس روحانيّ، حتّى ولو نسيت جميع نبوّات الرّسل السّابقين.

براهين الرسّالة

إنّ بهاءالله لم يطلب من أيّ شخص أن يقبل أقواله ودلائله قبولاً أعمى بدون تحقيق، بل بالعكس من ذلك، وضع في مقدّمة تعاليمه إنذارات شديدة لكلّ من يقبل أيّة سلطة قبولاً أعمى، وحثّ الجميع على أن يفتحوا أعينهم وآذانهم، ويحكموا بأنفسهم بدون

خوفٍ، وبتمام الحريّة والاستقلال، حتّى يعرفوا الحقيقة. وهو يدعو إلى التّحري التّام، ولم يخفِ نفسه مطلقًا، بل جعل البرهان الأعلى على رسالته نفس كلماته وأعماله وأثارها في تغيير أخلاق النّاس وحياتهم. وإنّ الأدلّة التّي ذكرها هي التّي وضعها سلفه العظماء من الرّسل، فقال موسى في التوراة:

“وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذّي لم يتكلّم به الرّب؟ فما تكلّم به النّبي باسم الرّب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذّي لم يتكلّم به الرّب، بل بطغيان تكلّم به النّبي فلا تخف منه.”(1)

وبمثل ذلك قرّر المسيح دليله بوضوح وبيّن البرهان على دعوته بقوله:

Ocean 2.0 Reader. Empty coverOcean 2.0 Reader. Book is closedOcean 2.0 Reader. FilterOcean 2.0 Reader. Compilation cover