تذكرة الوفاء
في ترجمة حياة قدماء الأحباء
صفحة خالية
من آثار
حضرة عبدالبهاء
تذكِرةُ الوفـــــــاء
في ترجمة حياة قُدماء الأحبَّاء
ترجمة: حسين روحي
شهر القدرة 161 بديع
تشرين الثّاني 2004م
من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل
المحتويات
كلمة النّاشر
يُعتبر كتاب تذكرة الوفاء الصّادر من قلم حضرة عبدالبهاء أثرًا يُمثّل وفاء مركز العهد والميثاق لنفوس أخلصت وجوهها لحضرة بهاءالله، فصارت، في أشخاصها ونهج حياتها، رموزًا تحكي عن القِيَم البهائيّة في حالتها التّطبيقيّة. فقد ضحّى البعضُ من تلك النّفوس النّفيسة بروحه في سبيل الجمال المبارك، كما ضحّى البعضُ منها بحياته وما فيها من متاع الدّنيا لأجل إعلاء أمر الله وإثبات كلمته المباركة بين العالمين حتّى يتحقّق الهدف الأسمى من رسالته المباركة، ألا وهو وحدة العالم الإنساني.
عندما يسرد قلمُ حضرة عبدالبهاء سيرة كلّ فرد من أولئك الّذين يذكرهم في هذه التّذكرة، إنّما يذكّر أهلَ العالم بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان إذا أراد أن يكون صورة الرّحمن ومثاله بين خلقه. لذلك ليس هذا الأثر المبارك كتابًا في التاريخ، بالمعنى المتعارف عليه، أو في تراجم السّلَف من المؤمنين، بقدر ما هو رسالة في منهاج الحياة البهائيّة المتمثّلة عمليّاُ في سيرة كلّ مؤمن خَصّص له قلمُ الميثاق قسمًا من هذا الكتاب.
وإنّه من دواعي السّرور أن ننشر للمرّة الأولى ترجمةً لتذكِرة الوفاء إلى اللّغة العربيّة قام بها المغفور له حسين روحي ابن الحاج ملاّ علي
التّبريزي. وُلد حسين في القاهرة سنة 1878م، بعد قدوم والده إليها بأمر من حضرة بهاءالله. إثر مقتل والده أثناء رحلة تبليغيّة في ديار بكر، وكان حسين فتىً يافعًا، عاش هذا الأخير فترةً في كنف والدته قبل أن يتكفّل الحاج ميرزا حسين الخراساني بتربيته وتعليمه اللّغة الفارسيّة. عندما أرسل حضرة عبدالبهاء الميرزا الخراساني المذكور عام 1899 مع آخرين إلى أمريكا، اختير حسين روحي مترجمًا لهم، فأقاموا في شيكاغو حتّى عام 1902. في تلك الفترة أكمل حسين دراسته الجامعيّة، مما أهّله للعمل في تدريس الإنجليزيّة في مدارس مصر بعد عودته إليها. التقى عام 1906 بالميرزا أبي الفضل الكلبايكاني في القاهرة، وكان يحضر معظم مجالسه التبليغيّة. في السّنة ذاتها أسّس حسين روحي في القاهرة مدرستين سمّاهما “العباسيّة”، تيمّنًا باسم حضرة عبدالبهاء عباس، واحدة للذّكور وأخرى للإناث، استمرّتا في العمل حتى إغلاقهما عام 1919. في السّنة التالية – 1920 – عُيّن مفتّشًا للتّربية والتّعليم في فلسطين، وكان مقرّ عمله في القدس، ومنها كان يقوم بزيارات إلى حيفا التي كان موجودًا فيها في اليوم الأربعين لصعود حضرة عبدالبهاء، وذلك عندما تُليت ألواح الوصايا وأُعلن فيها عن تعيين حضرة شوقي أفندي وليًّا لأمر الله. بقي في فلسطين شاغلاً مناصب حكوميّة إلى أن أُحيل إلى التّقاعد عام 1935. عندها عاد حسين روحي إلى مصر بأمر من حضرة وليّ أمر الله، فخدم فيها الأمر المبارك في المجالات الإداريّة والتبليغيّة، كما ساهم في ترجمة بعض الآثار المباركة الفارسيّة إلى العربيّة، ومنها تذكرة الوفاء. في الشّهر الحادي عشر من عام 1960 توُفّي المترجِم، ووري الثّرى في المدافن البهائيّة في القاهرة.
المحفل الروحاني المقدّس للبهائيين في حيفا
وافق المحفل الروحاني المقدّس للبهائيين في حيفا، في شهر يناير/ك2 سنة 1924م الموافق لشهر جمادى الأولى سنة 1342ﻫ، على أن يقوم جناب آقا محمد حسين جراف اليزدي الشهير بالكهربائي، بناء على طلبه، بطبع الكتاب الموسوم ب “تذكرة الوفاء” المدرج بين دفّتيّه تراجم عدد من الذوات المباركة من المهاجرين والمجاورين رقمها قلم مركز الميثاق الأنور (حضرة عبدالبهاء)، حقائق المقدّسين لتراب عتبته المقدّسة فداء، في سنة 1915م. فنثرت هذه التراجم الدرر واللئالىء المضيئة من بحر الجود والإحسان والعفو والغفران السّاطعة من أشعة الشمس المضيئة على قلوب أهل الاطمئنان.
والمعلوم أنه قد سبق أن حصل حضرة حسين الكهربائي المذكور من ساحة المولى الأعز الأكرم (حضرة عبدالبهاء) على الإذن بطبع الكتاب المذكور والقيام بهذه الخدمة. غير أنه قد حال دون القيام بطبع الكتاب هبوب نار الفراق التي أحرقت قلوب العشاق بلظى الهجران الذي أجّجه حادث الصعود المبارك الذي أرجف السبع الطباق. أمّا المذكور فلم يُثنِه شيء عن القيام بإنارة المقامات المقدّسة الثلاث بالكهرباء كعادته، بما عُهد فيه من صِرف المحبة والإخلاص في هذا السبيل بهمّة زائدة ونشاط له قيمته. وكان التوفيق حليفه في جميع
الأحوال إلى أن تحيّن الفرص بطلب الإذن بطبع الكتاب المذكور من ساحة مركز الأمر ولي الأمر الرحماني (حضرة شوقي أفندي ربّاني) أرواحنا لوحدته الفداء.
وما أن صدر له الإذن المبارك بذلك حتى شدّ ساعد الهمّة بكلّ اشتياق وباشر في طبع الكتاب على نفقته. وقد جعلنا حقوق الطّبع محفوظة لنفس النّاشر جناب محمد حسين علي الشّهير بالكهربائي.
تحريرًا في شهر يناير/ك2 سنة 1924م.
الموافق شهر جمادى الأولى سنة 1342ﻫ.
(ختم المحفل الروحاني المحلي في حيفا)
السكرتير
نور الدّين زين
(1) جناب النبيل الأكبر آقا محمد القائني
عليه بهاءالله
هو الله
كان ضمن تلاميذ الشيخ مرتضى، المجتهد الشهير في النجف الأشرف، شخص لا نظير له يُدعى آقا محمد القائني الذي لقّبه حضرة جمال القدم بِ النبيل الأكبر، وكان هذا الشخص الجليل متفوّقًا على جميع تلاميذ ذلك المجتهد بدرجة أن معلّمه قد استثناه ومنحه إجازة الاجتهاد مع أن المرحوم الشيخ مرتضى لم يَمنح أحدًا إجازة الاجتهاد غير هذا التلميذ. وفضلاً عن كل هذا فقد كان النبيل الأكبر غزير المادة متمكّنًا من حكمة الإشراقيين ومباحث العرفاء وأنواع المعارف الشيخيّة والفنون الأدبية بدرجة تفوق حد الوصف. وبالإجمال: كان شخصًا جامعًا قويّ الحجة والبرهان وقد أصبح شعلة رحمانية وسراجًا مضيئًا وعطّر مشامّه بنفحات القدس واستنار بنور الهدى بإيمانه بالبهاء فأوقد في مشكاة وجوده مصباح الوجد الكليّ والشغف والوله حتى صار كالحوت السابح في خضمّ العشق المتماوج.
وبعد أن نال درجة الاجتهاد بكمال التفوق من شيخه ظعن إلى بغداد حيث فاز بشرف اللقاء (لقاء حضرة بهاءالله) واقتباس الأنوار من شجرة السيناء المباركة وما لبث أن استولت روح الأمر على جميع أركانه
ودبّت في عروقه حمية الإيمان بدرجة جعلته في هياج مستمر.
وبينما كان ذلك الرجل الجليل (النبيل الأكبر) المحترم جالسًا على الأرض ذات يوم في محضر النّور المبين (حضرة بهاءالله)، وإذا بالحاجي ميرزا حسن عمو معتمد المجتهدين في كربلاء قد حضر ومعه زين العابدين خان فخر الدولة. ولمّا شاهد حضرة النبيل الأكبر جاثيًا على الأرض بكمال الأدب والخضوع والخشوع أخذه العجب وهمس في أذن النبيل قائلاً: “يا جناب الآقا ما الذي أتى بك إلى هنا؟” فأجابه جناب النبيل الأكبر قائلاً: “نفس الغرض الذي أتيت أنت من أجله”. فكان هذا الجواب، وأيم الحق، سبب اندهاش الحاجي ميرزا حسن عمو وزميله لعلمهما أنّ النبيل الأكبر مشهور بامتيازه وتقواه وتفوّقه على سائر المجتهدين وأنّ اعتماد الشيخ مرتضى الجليل كان على النبيل بدرجة عظيمة جداّ.
وقصارى القول: إن حضرة النبيل قصد بعد ذلك إيران وألقى عصاه في إقليم خراسان حيث أدّى له أمير إقليم قائن نهاية الاحترام في أول الأمر معتبرًا حضوره مَغْنَمًا لا يقدّر حتى اعتقد الأهلون أن نفس الأمير صار مغرمًا بجناب النبيل ومن عشّاقه المتعلّقين به لعظيم فصاحته وعلو كعبه في مختلف العلوم والفنون وهذا أدّى أيضاّ إلى احترام الجميع للنبيل “والناس على دين ملوكهم”.
فمرّت عدة أيام على حضرته كان خلالها مغمورًا بالتعزيز والاحترام ومع كل هذا، فلم يقدر على كتمان الحقيقة التي أشعلتها في فؤاده نار محبة الله الموقدة وتملّكته عوامل الحيرة والاندهاش بدرجة أنّه ترك جميع الأعمال وأخذ في خرق الحجبات بما استطاع من قوة على حد قول القائل: (ما ترجمته):
جاهدت بكلّ قواي حتى ألبس من العشق ثوبًا
غير أني ذبت في طريقي وأقمت على النفس حربًا
أما إقليم قائن فقد أضاء بنور الحقيقة وآمن العدد الكثير من الأهلين. ولمّا اشتهر حضرته بعقيدته بين القوم. قام أهل الحسد من العلماء بالنّفاق والشّقاق والسعاية به لدى الحكومة في طهران، فاستفزّ ذلك ناصر الدين شاه على الانتقام فدبّ الخوف في رَوْع أمير إقليم قائن وقام، خوف نفس الشاه، على جناب النبيل ومناوأته. فهبّ ريح الولولة وأُوقظت الفتنة العظيمة من نومها في مدينة قائن وهاج القوم وقاموا يدًا واحدةً على مناوأة النبيل الأكبر والتعرّض له. ولكن عزيمته لم تفتر بل قاوم الجمهور بقلبٍ أصلب من الصخر من شدّة حبّه للمحبوب. وفي النهاية ألقوا القبض على ذلك الواقف على السرّ المكنون وأرسلوه مخفورًا إلى طهران حيث آقام خالي الوفاض لا يملك قوت يومه وتطاولت عليه الرعاع وانبثت العيون في العاصمة لإلقاء القبض عليه ومعاقبته وأذاه، وذاق من أهل الظلم ضروب الإهانات في كل مكان آوى إليه وكانوا لا ينظرون إليه إلا شزرًا. وبالآخرة أُجبر على أن يلبس طِربوشًا بدل العمامة حتى لا يعرفه المناوئون ويسلَم من تحرّشهم وأذاهم، وكان لا يهدأ عن نشر النفحات في الخفاء بكل همّة ونشاط بإلقاء الحجج والبراهين المألوفة.
حقًا، إنه كان سراجًا نورانيًا وشعلة رحمانية. كان وجوده في خطر عظيم غير أنه كان ملء قلبه الحذر إذ كانت الحكومة مرسلة عيونها عليه والأحزاب في قيل وقال بالنسبة إليه فألجأه كل هذا إلى الرحيل إلى بوخارى وعشق آباد وأخَذَ في إلقاء بيانات الأسرار كالسراج الوهاج، ولم يُثنِهِ شديد الصّدمات ولا عظيم البليّات عن نشر النفحات
بل كان يزداد توقّدًا. أما ذلاقة لسانه وتفنّنه في معالجة أمراض المجتمع فحدّث عنهما ولا حرج. كان كالمرهم لِما بالقوم من جراح، يَهدي الناس بكلّ حكمة سائرًا على قاعدة أهل الإشراق والعارفين، يكشف اللّثام عن وجوه الحقائق ويثبت ظهور مليك الوجود بكل حجة دامغة، ويقنع مشايخ الشيخيّة بصريح عبارات كلّ من المرحوميْن الشيخ أحمد الإحسائي والسيد كاظم الرشتي. أما الفقهاء فكان يقنعهم بآيات القرآن وأحاديث أئمّة الهدى بالدليل الواضح والبرهان القاطع، وكان يعالج كل داء بعلاج فوري، ويمدّ فقراء العقول بما يُلهمهم الصواب. ولكنه أصبح في بوخارى بلا معين وابتلي بصدمات لا حدّ لها، وكانت عاقبة ذلك، الشّهم كاشف الأسرار، الانتقال إلى ملكوت ذي الجلال تاركًا رسالته البليغة وضمّنها الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة. ولكن يد الاغتيال سطت عليها، ولم تشأ يد الأقدار أن تُنشر لتكون سبب تنبّه العلماء والفضلاء.
والخلاصة، إنه وإن كان حضرته محاطًا بالبلايا أيام حياته غير أنه محا وأزال من الوجود أسماء وصيت جميع المشايخ العظام أمثال الشيخ مرتضى، وميرزا حبيب الله، وآيةالله الخراساني، وملا أسدالله المازندراني، وجعل ذكر مشايخ السلف والخلف في خبر كان. أما نجم جناب النبيل الأكبر فسيبقى لائحًا منيرًا من أفق العزة الأبدية لأنه كان على الدوام ثابتًا على الأمر راسخًا فيه، مشغولاً بالخدمة وتبليغ النفوس، ونشر التفحات.
ومن الواضح أن كل عزّة أصابت المرء عن طريق غير طريق أمر الله تنتهي إلى الذلّة، وكل راحة يشعرها الإنسان في غير سبيل الله تنتهي إلى المشقّة والعناء، وكذلك كل ثروة تنتهي إلى الفقر
والمسكنة.
ومما لا ريب فيه أن جناب النبيل الأكبر كان آية الهدى والتقوى في الأمر المبارك، مضحيًّا بالنفس والنفيس بكل سرور وانشراح وقد عاف العزّة الدنيوية وأغمض عينيه عن الغِنى والجاه والتربّع في دسوت المناصب وفكّ نفسه من أسْر التقييد وجرّدها من جميع الأفكار غير المجدية. وكان عالمًا فاضلاً ماهرًا في جميع الفنون، مجتهدًا لا يُجارى، حكيمًا عارفًا، طويل الباع في العلوم الأدبية، فصيح اللسان بليغ التعبير، نطوقًا لا يضارع، وكان في حدّ ذاته جامعة بمعنى الكلمة وكانت خاتمة المطاف بادية الألطاف. عليه بهاءالله. نوّر الله مرقده بأنوار ساطعة من الملكوت الأبهى وأدخله في جنة اللقاء وأخلده في ملكوت الأبرار مستغرقًا في بحر الأنوار.
(2) حضرة اسم الله الأصدق
هو الله
من جملة أيادي أمر الله الذين صعدوا إلى الرفيق الأعلى عليهم نفحات الرحمن كان جناب اسم الله الأصدق وجناب النبيل الأكبر (آقا محمد القائني) وجناب الملا علي أكبر وجناب الشيخ محمد رضا اليزدي وحضرة الشهيد (الميرزا ورقاء) وغيرهم. وحقًّا إن حضرة اسم الله الأصدق قد خدم الأمر من فجر حياته إلى النَفَسْ الأخير خدمة حقّة. تتلمذ في أيام شبابه على يد المرحوم السيد كاظم الرشتي وعاش في معيّته وكان مشهورًا بكمال التقديس في إيران وكان معروفًا بين القوم بالملاّ صادق المقدّس. كان إنسانًا مباركًا، وعالمًا فاضلاً، يحترمه الجميع وكان أهالي خراسان متعلّقين به تعلّقًا كليًّا لأنّه كان في الحقيقة فاضلاً نحريرًا ومن مشاهير العلماء الذين لا نظير لهم. كان في التبليغ ذا لسان فصيح قويّ الحجّة بدرجة تستوجب الإعجاب، وكان يُقنع مناظريه دون تعقيد أو لَبس.
وبعد أن حضر إلى بغداد وفاز بشرف الحضور واللقاء، كان جالسًا ذات يوم في محلّ الاستقبال على حافة البستان وتصادف أنّني كنت في غرفة مطلّة عليه وإذا بالشاه زاده (حفيد فتح علي شاه) قد حضر وأومأ إلى جناب اسم الله الأصدق وقال: “أراك هنا!” فأجابه اسم الله
الأصدق قائلاً: “أنا عبد هذا الرحاب وبستاني هذا البستان”. وشرع في تبليغ الشاه زاده وكنت أتسمّع لحديثه من الغرفة المذكورة. وإذا بالشاه زاده قد احتدّ واعترض ولم يلبث جناب اسم الله الأصدق أكثر من ربع ساعة حتى أسكته بعد أن كانت دلائل الإنكار وآثار الحدّة بادية على وجهه بكل وضوح وما أن هدأت تلك الحدّة حتى قال لجناب اسم الله الأصدق: “إنني لمسرور جدًا بلقائك ولقد أصغيت لحديثك بأُذُنٍ واعية”.
وبالإجمال، إن اسم الله الأصدق كان دائمًا أثناء التبليغ هشًّا بشًّا، وإذا رأى من مناظره غضاضة وحدّة قابلها باللّين واللّطف بثَغر باسم. أما طريقته في التبليغ فلا نظير لها إذ كان في الحقيقة اسمًا على مسمى يعني اسم الله حقًا.
أما في حفظ الأحاديث فكان خزانة جامعة وعلى الأخص في مطالب المرحوميْن الشيخ الإحسائي والسيد الرشتي. وقد آمن بالأمر من بدايته في شيراز واشتهر بذلك هناك. ولما كان يبلّغ الناس جهرة وبدون مبالاة، ألقت الحكومة عليه القبض وخزموه من أنفه وحاموا به في الطرقات. أما هو فلم ينزعج بل كان دائمًا مسرورًا ضاحك الوجه بشوشًا ولا يسكت عن محادثة رفاقه.
وبعد أن أطلقوا سراحه حكموا عليه بالرحيل إلى خراسان حيث أخذ في التبليغ كعادته ثم رافق جناب باب الباب (الملا حسين البشروئي) إلى قلعة الطبرسي وتحمّل المصائب ودخل في زمرة الفدائيين. وما لبث أن أسروه في القلعة وسلّموه ليد رئيس الحكومة في مازندران فأبعده هذا الأخير إلى جهة أخرى من إقليم مازندران ليسقوه كأس الشهادة. وما أن وصل إلى المحلّ المقصود حتى قَيّضَ له
الله شخصًا فكّ ما عليه من السلاسل والأغلال وخلّصه من السجن في منتصف الليل وأوصله إلى محلٍّ آمنٍ وما فتئت الامتحانات تنصبّ عليه وهو يتحمّلها برباطة جأش ورسوخ. وبينما كان محصورًا في القلعة كان لا يبالي بما كانت تَصُبّه الأعداء من القنابل من فُوّهات المدافع على القلعة بلا انقطاع. وقد أمضى هو والأحباب في القلعة ثمانية عشر يومًا بلا طعام حتى أنهم أكلوا جلود أحذيتهم وصبروا على الماء بقيّة أيام محاصرتهم وكان كلّ منهم لا يتناول أكثر من جرعة واحدة من الماء في كل صباح وكنت تراهم مطروحين على الأرض من شدّة ما أصابهم من ضعف. وكانوا كلّما شعروا بهجوم الجنود على القلعة دبّت فيهم، من عند الله، روح القوّة فصدّوا العساكر وأخرجوهم من القلعة.
أما كونهم طووا الضلوع على الجوع مدة ثمانية عشر يومًا فذلك من أشدّ الامتحانات من جهة أنّهم كانوا غرباء محصورين، ومن جهة ثانية الجوع، والذي زاد الطين بِلّة هجوم الجنود وسقوط القنابل والمفرقعات في ساحة القلعة.
حقًّا إنّه لمن الصعب أن يتحمّل الإنسان ذلك ويبقى ثابتًا راسخًا في معتقده ولم يتزلزل. وأيم الحق، إن جناب اسم الله لم يعترِه، رغم هذه المصائب والشدائد، أدنى فتور إذ أخذ في التبليغ بعد أن أُطلق سراحه وأوْقف كل أنفاسه للنداء بملكوت الله وإحياء النفوس، وقد فاز بشرف اللقاء في العراق وفي السجن الأعظم (عكّاء) وكان محطّ العناية العظمى من الجمال المبارك.
أما هو فكان بحرًا زاخرًا في العلوم وبازًّا مرتفعًا في آفاق الفنون المتنوعة ذا قدرة وقوة عجيبة واستقامة لا تجارى في التبليغ، براهينه
الدامغة وأدلّته المسكتة تتدفق كالسيل وكان حال تلاوة الأنجية تنهمر الدموع من آماقه كالمطر المدرار وكان نوراني الطلعة رحماني الأخلاق عالمًا ملهمًا، همّته سماوية وانقطاعه وزهده وورعه وتقواه كان ربانيًّا.
جدثه المنوّر في همدان وقد جرى القلم الأعلى في حقّه بألواح شتّى وأيضًا نزل له بعد وفاته لوح للزيارة خاص به، وكان إنسانًا عظيم القَدْر كامل الصفات. وقد تركت أمثال هذه النفوس المباركة هذا العالم والحمد لله ولم تشأ الإرادة الإلهية لهم أن يبقوا حتى لا يشاهدوا ما حلّ من البلايا بعد الصعود المبارك وحتى لا يقعوا بين مخالب الامتحانات الشديدة التي تزلزلت منها الجبال الراسيات والقُلل الشامخة. وفي الحقيقة إنّه اسم الله بكل ما في هذه الكلمة من معنىً. طوبى لنفس طاف حول جدثه واستبرك بتراب رمسه. وعليه التحية والثناء في ملكوت الأبهى.
(3) حضرة ملاّ علي أكبر عليه بهاءالله